تعتبر دولة المماليك في مصر والشام واحدة من أعجب وأعظم الدول في التاريخ الإسلامي. فكيف لرققيق تم شراؤهم بالمال أن يصبحوا سادة العالم، وكيف تحولوا من غرباء لا يملكون حريتهم إلى حماة الإسلام وحصن العروبة المنيع ضد أخطر هجمتين تعرض لهما العالم الإسلامي: الحملات الصليبية والغزو المغولي؟
يمتد عصر المماليك لأكثر من قرنين ونصف (1250 – 1517م)، وينقسم تاريخهم اصطلاحاً إلى دولتين: دولة المماليك البحرية، ودولة المماليك البرجية (الجراكسة).
لم يكن صعود المماليك انقلاباً عسكرياً تقليدياً، بل كان ضرورة فرضتها الظروف القاسية.
الجزء الأول: الميلاد من رحم الفوضى (سقوط الأيوبيين وصعود المماليك)
1. شجرة الدر ونهاية الأيوبيين
في عام 1249م، كانت مصر تواجه الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا. وفي هذه اللحظة الحرجة، توفي السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب.
- الدور التاريخي لشجرة الدر: أخفت زوجته شجرة الدر خبر وفاته حتى لا تنهار معنويات الجيش، واستدعت ابنه “توران شاه” من حصن كيفا، وأدارت المعركة بالتعاون مع كبار المماليك (بيبرس، قطز، أقطاي).
- معركة المنصورة: حقق المماليك انتصاراً ساحقاً، وتم أسر لويس التاسع.
- مقتل توران شاه: بعد النصر، تنكر توران شاه لفضل المماليك وزوجة أبيه، فقتله المماليك، وبذلك انتهت الدولة الأيوبية فعلياً.
2. التأسيس الصعب
نُصبت شجرة الدر سلطانة على مصر (وهي سابقة نادرة)، لكن الخلافة العباسية في بغداد رفضت أن تحكم امرأة، فتزوجت من الأمير المملوكي عز الدين أيبك وتنازلت له عن الحكم، لتبدأ رسمياً دولة المماليك البحرية (نسبة لثكناتهم في قلعة جزيرة الروضة ببحرة النيل).
الجزء الثاني: دولة المماليك البحرية (1250 – 1382م)
تميزت هذه الحقبة بالقوة العسكرية الهائلة وتثبيت أركان الدولة.
1. سيف الدين قطز وعين جالوت (1260م)
بعد مقتل أيبك واضطراب الحكم، واجه العالم الإسلامي كارثة اجتياح المغول بقيادة هولاكو وسقوط بغداد (1258م). وصل التهديد إلى مصر، فاعتلى سيف الدين قطز العرش موحداً الصفوف.
- المعركة الخالدة: في 3 سبتمبر 1260م، التقى الجيش المصري بجيش المغول في عين جالوت بفلسطين. حقق قطز وبيبرس نصراً غيّر مجرى التاريخ، حيث كانت أول هزيمة ساحقة للمغول أوقفت زحفهم للأبد وحفظت الحضارة الإسلامية من الفناء.
2. الظاهر بيبرس.. المؤسس الحقيقي (1260 – 1277م)
بعد مقتل قطز، تولى بيبرس السلطنة، ويُعتبر هو المؤسس الإداري والسياسي للدولة:
- الشرعية: أحيا الخلافة العباسية في القاهرة بعد سقوطها في بغداد لإضفاء الشرعية الدينية على حكمه.
- الجهاد: استرد العديد من المدن من الصليبيين (يافا، أنطاكية).
- الإدارة: أنشأ نظام “البريد” المتطور لربط أطراف الدولة، واهتم بالبنية التحتية والجسور.
3. أسرة قلاوون والعصر الذهبي
تولى السلطان المنصور قلاوون الحكم وأسس سلالة حكمت مصر لقرن من الزمان.
- الأشرف خليل بن قلاوون: هو من طرد الصليبيين نهائياً من آخر معاقلهم في “عكا” عام 1291م.
- الناصر محمد بن قلاوون: حكم لثلاث فترات متقطعة، وتعتبر فترته الثالثة (1310-1341م) العصر الذهبي لمصر المملوكية. عمّ الرخاء، وتوسعت العمران، وازدهرت الفنون، ولم تشهد مصر استقراراً وثراءً مثله من قبل، بفضل العلاقات الدبلوماسية والتجارة العالمية.
الجزء الثالث: الحضارة والنظام المملوكي
لم يكن المماليك مجرد محاربين، بل كانوا بناة حضارة رفيعة الطراز.
1. العمارة (سيمفونية الحجر)
تعتبر العمارة المملوكية أرقى ما وصل إليه الفن الإسلامي في مصر:
- السمات: القباب المزخرفة، المآذن الرشيقة، استخدام الأحجار الملونة (الأبلق)، والمقرنصات.
- أمثلة خالدة: مسجد ومدرسة السلطان حسن (هرم العمارة الإسلامية)، مجموعة قلاوون في شارع المعز، ومسجد المؤيد شيخ.
2. النظام العسكري (الفروسية)
كان الجيش هو عماد الدولة. تربى المماليك صغاراً في “الطباق” (مدارس عسكرية) على الولاء والتدريب الشاق، وبرعوا في “فنون الفروسية” التي شملت الرماية، والمبارزة، وركوب الخيل، والخطط الحربية.
3. الاقتصاد والتجارة
- سيطر المماليك على طرق التجارة العالمية (طريق التوابل) بين الهند وأوروبا.
- أدار “تجار الكارمي” حركة الاستيراد والتصدير، مما ضخ أموالاً طائلة في خزينة الدولة من خلال المكوس (الجمارك) المفروضة على البضائع العابرة.
الجزء الرابع: دولة المماليك البرجية (الجراكسة) (1382 – 1517م)
بدأت هذه الحقبة بوصول السلطان الظاهر برقوق إلى الحكم، وتحول الاعتماد من العنصر التركي (البحري) إلى العنصر الشركسي (البرجي – نسبة لأبراج القلعة).
1. سمات العصر الجركسي
- عدم التوريث: على عكس البحرية، نادراً ما ورث الجراكسة الحكم لأبنائهم، بل كان “الأقوى” هو من يحكم، مما زاد من وتيرة المؤامرات والاغتيالات.
- الذروة الفنية: رغم القلق السياسي، وصل الفن المعماري وتصنيع التحف المعدنية والزجاجية إلى ذروته في هذا العصر.
2. سلاطين عظام
- الأشرف برسباي: غزا جزيرة قبرص (1426م) وأسر ملكها، فارضاً سيادة مصرية على شرق المتوسط للحد من القرصنة. كما احتكر تجارة السكر والفلفل.
- الأشرف قايتباي: يعتبر “عميد البنائين”. سافر في أرجاء الدولة وأنشأ قلاعاً (مثل قلعة قايتباي في الإسكندرية) ومدارس ووكالات، وتميز عهده بالاستقرار النسبي والقوة.
الجزء الخامس: بداية النهاية
مع نهايات القرن الخامس عشر، بدأت عوامل الانهيار تتجمع كالسحب السوداء:
1. الكارثة الاقتصادية (رأس الرجاء الصالح)
في عام 1498م، اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، فحولوا التجارة العالمية بعيداً عن مصر. جف نبع الذهب الذي كان يمول الجيش والعمارة، ودخلت الدولة في أزمة اقتصادية خانقة.
2. الجمود العسكري
بينما كان العالم يتجه نحو “عصر البارود” والمدافع، ظل المماليك متمسكين بالفروسية التقليدية (السيف والرمح)، محتقرين البندقية والمحموديات (المدافع البدائية) واعتبروها سلاح الجبناء، مما جعل جيشهم متخلفاً تقنياً أمام القوى الصاعدة.
3. الصعود العثماني
في الشمال، كانت الدولة العثمانية تتحول إلى إمبراطورية عظمى مسلحة بأحدث تقنيات البارود، وبدأت تتطلع للسيطرة على زعامة العالم الإسلامي.
الجزء السادس: السقوط الدرامي (1516 – 1517م)
1. قانصوه الغوري ومعركة مرج دابق
حاول السلطان العجوز قانصوه الغوري تدارك الموقف، فخرج بجيشه لملاقاة العثمانيين بقيادة سليم الأول.
- مرج دابق (1516م): قرب حلب، التقى الجيشان. بسبب خيانة خاير بك (الذي انحاز للعثمانيين) وتفوق المدفعية العثمانية، هُزم المماليك ومات الغوري قهراً أو تحت سنابك الخيل، وسقطت الشام.
2. طومان باي.. البطل الأخير
تولى طومان باي السلطنة في القاهرة، ورفض الاستسلام. حاول تجهيز مقاومة شعبية ومملوكية يائسة.
- معركة الريدانية (1517م): عند مدخل القاهرة (العباسية حالياً)، قاوم طومان باي بشجاعة، لكن المدافع العثمانية حسمت المعركة.
- النهاية: خاض طومان باي حرب شوارع في أزقة القاهرة، لكنه وقع في الأسر. وفي مشهد مهيب، شُنق طومان باي على باب زويلة، وقرأ الفاتحة ثلاث مرات قبل موته، ليعلن ذلك المشهد نهاية دولة المماليك وتحول مصر إلى ولاية عثمانية.
خاتمة: إرث لا يموت
لم تكن دولة المماليك مجرد حقبة عابرة؛ بل كانت الدرع الذي تحطمت عليه أعتى جيوش العصور الوسطى.
- الإرث الثقافي: تركوا للقاهرة تراثاً معمارياً جعلها “مدينة الألف مئذنة”.
- الإرث الاجتماعي: أثرت مصطلحاتهم ونظمهم في الشخصية المصرية واللغة الدارجة حتى اليوم (مثل: طظ، أستاذ، بقشيش).
لقد كانوا عبيداً حكموا الملوك، وغرباء صاروا أكثر غيرة على الديار من أهلها، وكتبوا بدمائهم وعمائرهم فصلاً لا يُنسى في تاريخ الإنسانية.

