المقدمة: مصر في قلب الجغرافيا الثقافية
تمتلك مصر، بموقعها الجغرافي الفريد وتاريخها الذي يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام، إرثاً حضارياً لا يُضاهى، يُشكل منبعاً أساسياً للعديد من الممارسات الثقافية التي انتشرت عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي ظل التنافس المتزايد على “الملكية الثقافية” في المنصات الدولية، لا سيما منظمة اليونسكو، تجد مصر نفسها في صدارة الدول التي تتعرض عناصرها التراثية اللامادية لـمحاولات للمشاركة في التسجيل أو الاستحواذ الإقليمي. إن هذا الصراع لا يقتصر على مجرد مطالبات، بل هو انعكاس عميق لتوترات جيوسياسية، اقتصادية، وتنافس على القوة الناعمة.
هذا المقال يسعى لتحليل معمق للأبعاد الفكرية والمادية لهذا الصراع، مستعرضاً أمثلة حية من الأطعمة والآلات الموسيقية والملابس والفنون، والدوافع الكامنة وراء سعي دول الجوار للمشاركة في تسجيل أو نسبة هذا التراث.
المحور الأول: الإطار النظري للصراع على التراث
1. “مركزية المنبع” مقابل “الممارسة الحية”
يقع جوهر الجدل في التناقض بين مفهومين رئيسيين:
- المنبع التاريخي المصري: وهو يمثل الدليل الأثري والوثائقي والتاريخي الذي يثبت أن العنصر الثقافي (مثل أداة موسيقية أو فن قتالي) نشأ وتطور في مصر أولاً.
- الممارسة الحية لليونسكو: تعتمد اتفاقية 2003 لحماية التراث الثقافي اللامادي على مبدأ أن التراث يجب أن يكون “مُمارساً حياً” من قبل مجتمع محلي ليتم تسجيله. هذا المبدأ يخفف من أهمية “الأصل” المطلق، ويفتح الباب أمام الدول المجاورة لتسجيل عناصر متشابهة أو مشتركة، بحجة أنها جزء لا يتجزأ من هويتها المعاصرة.
تساؤل نقدي: هل يمكن لاتفاقية دولية تهدف لحماية التراث أن تصبح أداة لتفكيك الهوية الأصيلة للعنصر عبر تشتيته بين دول متعددة دون إشارة واضحة لمركزه الحضاري الأول؟
2. الدوافع الجيوسياسية والاقتصادية
- اكتساب الشرعية الحضارية: إنّ تسجيل تراث عريق في اليونسكو يمنح الدول شرعية ثقافية إضافية، مما يعزز سرديتها القومية ويجعلها تبدو كـوريثة لحضارة قديمة، وهو أمر حيوي في منطقة متقلبة سياسياً.
- استراتيجيات السياحة الثقافية: التراث المُسجل هو منتج سياحي عالمي. عندما تنجح دولة في تسجيل طبق أو فن، تصبح وجهة رئيسية للسياحة الثقافية المرتبطة بهذا العنصر، مما يزيد من الإيرادات القومية.
- القوة الناعمة الإقليمية: يعتبر التراث أداة ناعمة قوية. النجاح في اليونسكو يسمح للدول بـتعزيز نفوذها الدبلوماسي والتأثير على القضايا الثقافية في المنطقة.
المحور الثاني: أمثلة التراث المصري المُستهدف بالتفصيل
هناك خمسة مجالات رئيسية للتراث المصري تتعرض للمطالبات والمنافسة الشرسة:
1. التراث الغذائي والأطباق الشعبية (صراع المذاق والأصالة)
يواجه المطبخ المصري معركة حامية، خاصة في ظل التنافس الإقليمي على التراث الغذائي (ما يُسمى بـ “حروب الأكل”):
العنصر المصري | الأهمية المصرية وتوثيقه | أمثلة لمحاولات التسجيل/النسب |
الكشري | الطبق الوطني الأبرز. تم تقديم ملف مصري لتسجيله في اليونسكو (ضمن الدورة القادمة). يمثل دمج الثقافات المتعددة في مصر (هندي، إيطالي، تركي) وتكييفها محلياً ليصبح رمزاً للمأكولات المصرية الشعبية. | محاولات نسبه بشكل واسع إلى مطابخ شرق المتوسط أو المطابخ العثمانية دون الإقرار بكونه أيقونة مصرية بامتياز. |
الفول المدمس | يعود توثيقه إلى العصر الفرعوني. طبق رئيسي للإفطار ارتبط بالثقافة الشعبية والاقتصاد المصري. | نسبه بشكل عام إلى “المطبخ الشامي” أو “المطبخ العربي” في سياق المطاعم العالمية، متجاهلين المنبع والتوثيق الأثري لزراعة الفول في وادي النيل. |
الملوخية | مرتبطة بتاريخ حكم الفاطميين. تعتبر “طعام الملوك” ثم تحولت لطبق شعبي مصري لا غنى عنه. | نسبتها إلى بلدان أخرى في بلاد الشام حيث يتم إعدادها بشكل مختلف (الورق كامل). يمثل هذا اختلافاً في طريقة الإعداد عن الطريقة المصرية الأصيلة (المخرطة). |
**تساؤل: ** هل يكفي وجود المكونات الرئيسية لطبق ما في مناطق متعددة لتبرير مشاركة متساوية في التسجيل، أم يجب أن يُعطى الوزن الأكبر للدولة التي حولت هذا الطبق إلى أيقونة اجتماعية ورمز وطني كما فعلت مصر؟
2. الآلات الموسيقية والفنون الأدائية
- السمسمية (الطار): آلة وترية شعبية ذات تاريخ طويل في منطقة قناة السويس وسيناء. على الرغم من أن مصر تقدمت بملف لتسجيلها، إلا أنها تُستخدم أيضاً في اليمن والسعودية وليبيا والسودان، مما يعرضها للمشاركة في ملفات إقليمية.
- العود: على الرغم من كونه آلة عربية عامة، فإن مصر كانت مركزاً لتطوير العود العربي على مر التاريخ. تسعى دول أخرى لتوثيق أنماط العزف أو صناعة العود كملكية فردية، في سباق لتوثيق التفاصيل الدقيقة للآلة.
3. الملابس والحرف اليدوية
- التلي (Tally): نوع من التطريز المعدني على قماش شبكي (التُل)، تشتهر به أسيوط في صعيد مصر. له تاريخ يعود للقرن التاسع عشر، وربما أصول أقدم. تحدي التسجيل: قد تسعى دول مجاورة لتقديم أنماط تطريز معدنية مشابهة (كالسيرما مثلاً) كبديل أو كعنصر مستقل، مما يشتت التركيز عن خصوصية وتاريخ “التلي المصري”.
- الجلباب الصعيدي/الجلابية: زي شعبي مصري أصيل ذو تصميم ولون مميز. محاولة نسبه: هناك محاولات لتصنيف الجلابية بشكل عام كـ”ملابس عربية تقليدية”، لكن الجلباب الصعيدي له خصائصه الفريدة وله ارتباط مباشر بفن التحطيب (المسجل باسم مصر).
4. الفنون القتالية والألعاب الشعبية
- التحطيب (لعبة العصا): فن قتالي تراثي مصري تم تسجيله بنجاح في اليونسكو (2016). يعود تاريخه إلى العصر الفرعوني (موثق على نقوش أبيدوس).
- محاولات المنافسة: بعض الدول المجاورة لديها أشكال من “رقصات العصا” الشعبية وتسعى لتمييزها وتسجيلها كأمر مستقل، مما قد يؤدي لخلط بين فنون قتال أصيلة ذات منشأ مصري واضح وبين رقصات شعبية.
- الأراجوز (مسرح العرائس اليدوية): تم تسجيله في قائمة الصون العاجل باليونسكو (2018).
- محاولات المنافسة: هناك أشكال مماثلة لمسرح الظل والعرائس في تركيا (كاراغوز) واليونان (كاراغيوزيس) وغيرها. على الرغم من أن الأراجوز المصري له هويته الواضحة، إلا أن التداخل التاريخي يفتح البنود للمقارنة والمنافسة الدائمة في الأصالة.
المحور الثالث: التساؤلات الفكرية والحلول المقترحة
إنّ هذا التنافس يثير تساؤلات فكرية عميقة حول التراث في عصر العولمة:
- سؤال الملكية الثقافية: هل يجب أن تُعامَل الثقافة الإنسانية كملكية فكرية خاضعة لحقوق النشر؟ أم أن انتشارها وتطورها هو دليل على غناها؟ (الجواب يكمن في إيجاد التوازن بين الاعتراف بالأصل والاحتفاء بالانتشار).
- سؤال المعيار: ما هو المعيار الأكثر عدلاً لتسجيل التراث المشترك؟ هل هو “الأسبقية التاريخية”، أم “أكبر نسبة ممارسة حية حالية”؟ أم يجب أن تكون “جودة التوثيق” هي الفيصل؟
الحلول الاستراتيجية لمصر:
- التركيز على الملفات المشتركة: بدلاً من معارضة المطالبات دائماً، يجب على مصر أن تتبنى استراتيجية “الشراكة الذكية”. المبادرة بتقديم ملفات متعددة الجنسيات (Multi-national Nominations) تشمل دول الجوار، مع الإصرار على أن يشير التوثيق داخل الملف بوضوح إلى المنبع الأقدم والمركز التاريخي للعنصر في مصر، لضمان الاعتراف بها كـ**”الدولة المرجعية”** (Reference State).
- التوثيق العلمي الدقيق: الاستثمار في الأبحاث الأنثروبولوجية والأثرية لتوثيق أصغر التفاصيل المرتبطة بالتراث (مثل أنواع الخيوط في التلي، أو نغمات ومقامات السمسمية المصرية)، لإنشاء دليل لا يمكن تفنيده أمام لجان التقييم الدولية.
- الحملات الترويجية العالمية: استخدام القوة الناعمة والمؤثرين العالميين لربط هذه العناصر التراثية مباشرة بالهوية المصرية على المستوى الجماهيري (كما حدث في حملات ترويج الكشري).
الخاتمة
يظل التراث الثقافي المصري، بضخامته وعمق جذوره، هدفاً دائماً للمنافسة الثقافية الإقليمية. إنّ سعي الدول للمشاركة في تسجيله أو نسبه إليها هو محاولة مشروعة في سياق اليونسكو، لكنه يتطلب من مصر يقظة استثنائية واستراتيجية توثيق واستباق لا تكتفي بـ “الأصالة”، بل تثبت “الاستمرارية الحية” و**”العمق التاريخي غير المنقطع”** لهذه الممارسات على أراضيها. في نهاية المطاف، إن حماية التراث المصري في المنصات الدولية هي معركة لحماية الهوية الوطنية ومكانة مصر الحضارية كـحارس للإرث الإنساني الأقدم.