هيباتيا: الفيلسوفة والعالمة التي تحدّت عصور الظلام

6 دقيقة قراءة

مقدمة

في قلب الإسكندرية، تلك المدينة التي كانت يومًا منارة للعلم والفلسفة في العالم القديم، عاشت امرأة استثنائية جسّدت روح التنوير في زمنٍ بدأت فيه شمس الحضارة الكلاسيكية تغيب. هيباتيا (حوالي 350–370م – 415م) لم تكن مجرد عالمة أو فيلسوفة، بل كانت رمزًا لمقاومة الجهل، ودفاعًا عن العقل والمنطق في وجه التعصب الديني والانقسام السياسي. تُعدّ هيباتيا واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ العلم والفلسفة، بل وأول امرأة في التاريخ الغربي تُسجّل مساهماتها في الرياضيات والفلك والفلسفة بشكلٍ واضح وموثّق. لكن مصيرها المأساوي لم يكن فقط نهاية حياةٍ عظيمة، بل كان أيضًا إيذانًا بانحسار عصر التنوير الكلاسيكي وبداية عصور الظلام في أوروبا.


النشأة والخلفية الفكرية

وُلدت هيباتيا في الإسكندرية، مصر، في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، في عائلةٍ أكاديمية مرموقة. كان والدها، ثيون الإسكندري، عالم رياضيات وفلكٍ بارز، ومُعلّمًا في مدرسة الإسكندرية، بل وآخر مديرٍ معروف لمكتبة الإسكندرية (أو ما تبقى منها). نشأت هيباتيا في بيئةٍ غنية بالكتب والمعرفة، وتلقّت تعليمًا نادرًا بالنسبة لامرأة في عصرها، شمل الفلسفة، الرياضيات، الفلك، والمنطق.

سافرت هيباتيا في شبابها إلى أثينا، مركز الفلسفة اليونانية آنذاك، حيث درست في مدارس أفلاطون وأرسطو، وعادت إلى الإسكندرية لتُدرّس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (النّيوبلاطونية)، التي كانت تُعدّ الفلسفة السائدة في العالم الهيلينستي المتأخر. وقد ورثت عن والدها منصب التدريس في مدرسة الإسكندرية، فأصبحت محطّ احترامٍ وتقديرٍ من طلابها، بل ومن كبار المسؤولين والقادة في المدينة.


مساهماتها العلمية والفلسفية

رغم أن معظم أعمال هيباتيا الأصلية قد ضاعت، إلا أن المصادر التاريخية المعاصرة لها، مثل سقراط السُّقُوفِي وديميسذيوس، تشير إلى أن نشاطها الفكري كان واسعًا ومتعدد الأوجه:

  1. الرياضيات:
    ساعدت هيباتيا والدها في تعليقه على “المجسطي” (Almagest) لبطليموس، وهو أبرز عمل فلكي في العصور القديمة. كما يُنسب إليها تحرير وشرح “العناصر” لأقليدس، و”المخاريط” لأبولونيوس، مما ساهم في الحفاظ على هذه الأعمال ونقلها للأجيال اللاحقة.
    وتشير بعض المصادر إلى أنها اخترعت أدوات رياضية وفلكية، مثل الأسطرلاب (astrolabe) والهيدروسكوب (hydroscope)، رغم أن هذه النسبة غير مؤكدة تمامًا.
  2. الفلك:
    كانت هيباتيا تُدرّس حركة الكواكب وفق النظام البطليموسي، وتفسّر الظواهر السماوية بالاعتماد على الرياضيات والمنطق، لا على الخرافات أو الأساطير.
  3. الفلسفة النيوبلاطونية:
    ركّزت هيباتيا في تدريسها على توحيد الروح مع العقل الإلهي عبر التأمل والمنطق، مع الحفاظ على استقلالية الفكر النقدي. وقد رفضت أي شكلٍ من أشكال التعصب الديني، ودعت إلى التسامح بين المعتقدات المختلفة، وهو ما جعلها محطّ إعجابٍ من الوثنيين والمسيحيين المعتدلين على حدٍ سواء.

السياق السياسي والديني

عاشت هيباتيا في فترةٍ حرجة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، حيث كان الصراع بين الوثنية والمسيحية في أوجه. الإسكندرية، التي كانت دائمًا مركزًا ثقافيًا متعدد الأعراق والأديان، أصبحت ساحةً للتوترات الطائفية. في هذا السياق، برزت شخصية البطريرك كيرلس (Cyril of Alexandria)، الذي تولى منصب البطريك عام 412م، وكان معروفًا بتطرفه الديني وسعيه لفرض الهيمنة المسيحية الأرثوذكسية على المدينة.

هيباتيا، بصفتها رمزًا للعقلانية والفكر الهيلينستي، وُجدت في مواجهةٍ غير مباشرة مع السلطة الكنسية الناشئة. فقد كانت صديقةً مقربةً من أوريستس، الحاكم الروماني للمقاطعة، الذي كان في صراعٍ سياسي مع كيرلس حول سلطة الحكم في الإسكندرية. وقد استغلّ خصوم هيباتيا هذا الارتباط لتصويرها كـ”وثنية” تقف ضد المسيحية، رغم أن كثيرًا من تلامذتها كانوا مسيحيين.


الاغتيال والميراث

في مارس 415م، وفي وضح النهار، تمّ اختطاف هيباتيا من عربتها أثناء عودتها من مدرستها. جرّها مجموعة من الرهبان التابعين لكيرلس إلى كنيسة قيصرية، حيث قُتلت بوحشيةٍ لا تُوصف: جُردت من ملابسها، وقُطّعت جسدها بأصدافٍ حادة، ثم أُحرقت بقاياها. لم يُعاقب أحدٌ على هذه الجريمة، مما يدلّ على التواطؤ الصامت من السلطات الكنسية.

كان اغتيال هيباتيا صدمةً للعالم المتمدن آنذاك. وصفه المؤرخ سقراط السُّقُوفِي بأنه “فعلٌ لا يليق لا بالدين ولا بالفلسفة”. واعتبره الكثيرون نهاية عصر التنوير في الإسكندرية، وبداية هيمنة التعصب الديني على الحياة الفكرية.


هيباتيا في الذاكرة التاريخية

على مرّ العصور، تحولت هيباتيا إلى رمزٍ عالمي للنضال من أجل العلم، وحرية الفكر، وحق المرأة في التعليم. في عصر التنوير، احتفى بها الفلاسفة مثل فولتير وغيّبُوا تفاصيل وفاتها المروّعة كدليلٍ على ظلم الكنيسة. وفي العصر الحديث، أُعيد تقييم دورها ليس فقط كضحيّة، بل كعالمةٍ وفيلسوفةٍ ذات إسهامات حقيقية.

في السينما والأدب، ظهرت هيباتيا في أعمالٍ مثل فيلم “Agora” (2009) للمخرج أليخاندرو آمينابار، الذي قدّم صورةً دراميةً لحياتها وصراعها من أجل الحقيقة في وجه التطرف.


خاتمة

هيباتيا لم تُقتل لأنها امرأة، بل لأنها كانت عالمةً في زمنٍ بدأ يُعادي العلم. كانت فيلسوفةً في زمنٍ أُغلق فيه باب الفلسفة أمام التأمل الحر. كانت صوت العقل في عالمٍ بدأ يختار الإيمان الأعمى على الحجة والبرهان. وميراثها لا يكمن فقط في ما تركته من أفكار، بل في ما تمثّله: أن المعرفة لا تعرف جنسًا، وأن الدفاع عن الحقيقة قد يكلّف الحياة، لكنه يخلّد الاسم.

في عالمٍ لا يزال يعاني من التطرف والجهل، تبقى هيباتيا منارةً تذكّرنا بأن التنوير لا يُبنى إلا بالشجاعة، وأن العلم لا يزدهر إلا في ظلّ الحرية.


المراجع المقترحة:

  1. Socrates Scholasticus, Ecclesiastical History, Book VII.
  2. Damascius, Life of Isidore (Fragments preserved in the Suda).
  3. Dzielska, Maria. Hypatia of Alexandria. Harvard University Press, 1995.
  4. Deakin, Michael A. B. Hypatia of Alexandria: Mathematician and Martyr. Prometheus Books, 2007.
  5. Booth, Charlotte. Hypatia: Mathematician, Philosopher, Myth. Fonthill Media, 2017.
شارك هذه المقالة
بواسطةadmin
تابع:
مواطن مصري يفتخر ويضحي من اجل وطنه وحماية ترابه ونيله وشعبه
لا توجد تعليقات