جيش قمبيز المفقود: لغز الصحراء الذي حيّر التاريخ والعلوم

cropped-cropped-ك-1.png
Thutmose III
cropped-cropped-ك-1.png
بواسطةThutmose III
founder
- founder
8 دقيقة قراءة

جيش قمبيز المفقود: لغز الصحراء الذي حيّر التاريخ والعلوم

مقدمة

من بين أعظم الألغاز التي واجهت المؤرخين وعلماء الآثار على مدى القرون، يبرز لغز جيش قمبيز المفقود كقصة تمتزج فيها الحقيقة بالأسطورة، والعلم بالخيال. كيف يمكن لجيش قوامه خمسون ألف جندي أن يختفي في قلب الصحراء المصرية دون أن يترك أثراً ملموساً؟ هل كان ضحية قوة الطبيعة القاهرة، أم سقط في فخ المقاومة المصرية، أم طُمِس عمداً من صفحات التاريخ الفارسي لتجنّب العار العسكري؟
هذا المقال يتناول المسألة من زوايا متعددة: التاريخية، الأثرية، البيئية، والسياسية، مستعرضاً الأدلة القديمة والجديدة التي تحاول فك شيفرة أحد أعقد الألغاز في تاريخ البشرية.


أولاً: خلفية تاريخية — قمبيز الثاني وحملته على مصر

ولد قمبيز الثاني حوالي عام 558 ق.م، وهو ابن الإمبراطور الفارسي قورش الكبير، مؤسس الدولة الأخمينية. وبعد وفاة والده، تابع قمبيز سياسة التوسع الإمبراطوري، فاتجه نحو مصر، الدولة التي كانت آنذاك في أواخر حكم الأسرة السادسة والعشرين تحت قيادة الملك بسماتيك الثالث.

في عام 525 قبل الميلاد، عبر قمبيز الصحراء الشرقية من فلسطين إلى مصر، وتمكن من هزيمة الجيش المصري في معركة الفرما، ليُسيطر بعدها على منف، العاصمة المصرية القديمة الواقعة جنوب القاهرة الحديثة. وبذلك أصبحت مصر ولاية فارسية، ولكن قمبيز لم يكتفِ بالنصر العسكري؛ إذ أراد أيضاً أن يحصل على الشرعية الدينية التي تمنحه الحق في حكم البلاد، وفق العقيدة المصرية القديمة.


ثانياً: رحلة قمبيز إلى معبد وحي آمون

كان معبد وحي آمون في واحة سيوة (غرب مصر الحالية) من أهم المعابد في العالم القديم، إذ يُعتقد أن الإله آمون كان يمنح الملوك “الحق الإلهي في الحكم” من خلال كهنته. لذلك، قرر قمبيز أن يرسل جيشاً ضخماً مكوّناً من خمسين ألف جندي من طيبة (الأقصر حالياً) إلى سيوة، لإخضاع الكهنة وإجبارهم على إعلان ولائهم له.

إلا أن ما جرى بعد ذلك غلفه الغموض إلى الأبد…


ثالثاً: رواية هيرودوت — الجيش الذي ابتلعته الرمال

أقدم مصدر تاريخي لقصة الجيش المفقود هو المؤرخ الإغريقي هيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد). ففي كتابه التواريخ، يروي أن الجيش سار سبعة أيام من طيبة إلى ما سمّاه “جزيرة المباركين”، ثم بعد أيام من المسير في الصحراء الغربية، هبت عليهم عاصفة رملية مدمّرة دفنت الجيش بكامله تحت الرمال، بحيث لم ينجُ منهم أحد.

هذه الرواية، رغم شهرتها، لم يدعمها أي مصدر مصري أو فارسي معاصر. فالمصريون، المعروفون بدقتهم في التدوين، لم يسجلوا أي حدث مشابه، كما أن السجلات الفارسية صمتت تماماً حول الحملة. هذا الصمت زاد من غموض القصة وفتح الباب أمام نظريات متعددة لتفسير ما حدث فعلاً.


رابعاً: النظريات الحديثة — من العاصفة إلى الكمين

  1. نظرية الكارثة الطبيعية

تتبنى هذه النظرية ما ذكره هيرودوت: أن الجيش واجه عاصفة رملية ضخمة أدت إلى دفنه بالكامل.
وقد أظهرت دراسات جيولوجية حديثة أن صحراء الواحات معرضة بالفعل لعواصف رملية مفاجئة وعنيفة يمكن أن تدفن أشخاصاً ومخيمات بأكملها.
في عام 2009، أعلن فريق إيطالي بقيادة باولو وجاكو موريزي اكتشاف بقايا هياكل وعظام بشرية وأدوات معدنية قرب واحة الداخلة والبحرية، مما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد أنهم عثروا على آثار من جيش قمبيز الذي ابتلعته الرمال.

لكن رغم إثارة هذه الاكتشافات، لم يتم التحقق منها بشكل علمي قاطع حتى الآن.


  1. نظرية الكمين العسكري

عالم المصريات الألماني أولاف كابر (Olaf Kaper) قدّم طرحاً مختلفاً جذرياً.
في عام 2014، عرض كابر نتائج بحثه التي تشير إلى أن الجيش لم يختفِ في الرمال، بل أُبيد في كمين عسكري نصبه زعيم مصري متمرد يُدعى بيتوباستيس الثالث في واحة الداخلة.
وفقاً لهذه الفرضية، كان بيتوباستيس قد أعلن نفسه ملكاً لمصر بعد الاحتلال الفارسي، ونجح في حشد مقاومة واسعة ضد الحكم الأخميني. عندما أرسل قمبيز جيشه غرباً لقمع التمرد في سيوة، كان هذا الجيش قد دخل أراضي تحت سيطرة المتمردين، فوقع في فخ محكم أدى إلى تدميره بالكامل.

ويرى كابر أن خلف قمبيز، الملك دارا الأول، حاول إخفاء هذه الهزيمة المذلة بإطلاق قصة “العاصفة الرملية”، لتبقى القصة مقبولة سياسياً في الإمبراطورية الفارسية.


خامساً: الأدلة الأثرية والمكتشفات الحديثة

تم العثور في مناطق متفرقة من الصحراء الغربية المصرية على:

بقايا عظام بشرية متآكلة بفعل الزمن.

رؤوس حراب وأدوات معدنية من الطراز الفارسي.

قطع فخارية تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد.

إلا أن علماء الآثار يؤكدون أن هذه الأدلة غير كافية لإثبات أنها تخص جيش قمبيز تحديداً. فقد تكون بقايا لقوافل تجارية، أو حملات عسكرية أخرى.
ومع ذلك، فإن موقع الداخلة تحديداً يقدّم أقوى مؤشرات على صدام بشري مسلح، مما يعزز فرضية الكمين أكثر من فرضية الكارثة الطبيعية.


سادساً: الجغرافيا القاسية للصحراء الغربية

من الناحية الجغرافية، يُعد الطريق بين طيبة وسيوة من أخطر الطرق القديمة، إذ يمتد عبر صحراء قاحلة تفتقر إلى مصادر المياه.
تعتمد الحملات على معرفة دقيقة بمواقع الآبار، وأي انحراف بسيط في الاتجاه قد يؤدي إلى الهلاك الكامل.
وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية أن المنطقة بين واحات الداخلة والبحرية والفرافرة تحتوي على كثبان متحركة قادرة على ابتلاع قوافل كاملة خلال ساعات، وهو ما يجعل فرضية العاصفة أيضاً واقعية بيئياً.


سابعاً: بين الأسطورة والسياسة

يتفق المؤرخون على أن قمبيز لم يكن ملكاً محبوباً حتى داخل دولته، ووصفه بعض الكتاب الإغريق بالجنون والقسوة. لذلك، يرى البعض أن قصة جيشه المفقود تحولت مع الوقت إلى أسطورة رمزية تعكس فشل الغزاة في إخضاع روح مصر القديمة، التي قاومت الغزو بالتمرد والعزيمة وحتى بعنف الطبيعة نفسها.

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى “جيش قمبيز المفقود” كرمز لصدام الحضارات بين الروح المصرية العريقة والطموح الإمبراطوري الفارسي.


ثامناً: تحليل علمي وتاريخي شامل

عند مقارنة المصادر التاريخية بالأدلة الميدانية، يمكن استخلاص ما يلي:

  1. هيرودوت قد نقل الرواية من السكان المحليين بعد أكثر من نصف قرن من الحدث، ما يجعلها مشوبة بالأسطرة.
  2. غياب السجلات الرسمية الفارسية يشير إلى محاولة متعمدة لإخفاء الفشل العسكري.
  3. الأدلة الأثرية في الداخلة أكثر اتساقاً مع فرضية الهجوم البري والمقاومة المحلية.
  4. العوامل المناخية قد ساهمت في تفاقم الكارثة، فحتى لو كانت هناك معركة، فإن العاصفة قد أكملت مأساة الجيش.

وهكذا، يُرجح أن الجيش الفارسي قُضي عليه بفعل مشترك من الإنسان والطبيعة، وليس أحدهما فقط.


خاتمة: لغز يتحدى الزمن

رغم مرور أكثر من 2500 عام على اختفاء جيش قمبيز، ما زال اللغز قائماً.
كلما كشفت الرمال عن قطعة أثرية جديدة، ازدادت القصة تعقيداً وإثارة. إنها ليست مجرد حكاية جيش ضائع، بل ملحمة عن الغرور الإمبراطوري، وقوة الأرض المصرية، وصراع الإنسان مع الصحراء.

إن “جيش قمبيز المفقود” سيظل، بلا شك، أحد أعظم ألغاز التاريخ القديم، ودعوة مفتوحة للعلماء والمستكشفين لمواصلة البحث في عمق الصحراء التي تبتلع أسرارها في صمت منذ آلاف السنين.


المراجع

[1] جيش قمبيز المفقود – ويكيبيديا
[2] لغز جيش قمبيز المفقود – Facebook
[3] جيش قمبيز المفقود – Defense Arab
[4] قمبيز الثاني – ويكيبيديا
[5] جيش قمبيز المفقود – بول سوسمان (كتاب إلكتروني)
[6] جيش قمبيز المفقود.. عن الفساد والشرطة والجماعات الإسلامية – المصري اليوم

شارك هذه المقالة
لا توجد تعليقات