نداءٌ من النيل والحضارة

7 دقيقة قراءة

1. تمهيد: نداءٌ من النيل والحضارة

قلب ضفاف نهرٍ خالد، حيث امتدّت حضارةٌ عظيمة على مدى آلاف السنين، نشأت مصر ليس فقط من الطين والماء بل من نباتٍ أخضر، أشجارٌ وبذورٌ ورؤىٌ. هذا النداء، ندعو إليه اليوم: لنعيد الاعتبار لهويّتنا النباتية، لقصّةٍ تكاد تختفي، ولنبتةٍ كانت تهمس لنا بالأمس، وتحتاج اليوم إلى أن نستمع إليها.
قال تعالى:

«وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ» (الزمر: 21)

إذ إن النباتات هي آياتٌ من خلق الله، في الأرض والسماء، وجعلها لنا آيةً لنتفكر.

في هذا البحث نرحل بين الماضي والحاضر، نستعرض نباتات مصر القديمة التي شاركت في أساطيرها، زخرفت معابدها، أو غذت ملوكها، ثم اختفت أو تراجعت، ونسأل: هل ما زال هناك أمل لإحيائها؟ وهل توجد معامل أو مؤسسات تعمل على ذلك؟


2. مشهد من الماضي: نباتات عظيمة من حضارة مصر

2.1 ‎‎Cyperus papyrus – البردي

نباتات البردي
نبات البردي


لا يمكن أن نحكي قصة نباتات مصر القديمة دون أن نذكر البردي. كان البردي نباتاً رمزياً: يصنع منه الورق، والسفن، والمراكب الصغيرة، وحتى الحبال والسلال.
وورد في التقرير الوطني المصري: «عُثر عليه في البحيرات غربْ دلتا النيل بكميات صغيرة، وعُدّ مهدداً أو مفقوداً في كثير من المناطق».
في أحد الاكتشافات: وجد باحثون بقعة صغيرة للبردي قرب وادي النطرون حيث نجا “نواة” من هذا النبات.
هذه البردي كانت حرفياً “حبر التاريخ” المصري، وحين تختفي، تختفي معها ذاكرة الورقة والماء، ظلّ الحضارة، إذ يقولون إن مراكب الفراعنة كانت تصنعه.

2.2 ‎‎Medemia argun – نخلة النوبة/مِدِيميا


في صحراء النوبة، وفي مواقع دفن القدماء، وُجدت ثمار هذه النخلة، وكانت تُقدَّم في قبور الفراعنة كهبة للحياة الآخرة.
لكن اليوم: عدد أفرادها في مصر يُقدَّر بالعشرات القليلة.
وقد أُجريت تجارب خارج الموقع الأصلي (ex-situ) في جامعة أسوان لإنبات بعض الشتلات منها.
هذه النخلة، إذ تختفي، تختفي معها أحد رموز صمود الصحراء في حضارةٍ كانت تقول: «نخلةٌ في قلب الرمل».

500px Ma3269
نخلة النوبة

2.3 نباتات صغيرة مهدّدة أو منقرضة – كمثال: ‎Bellevalia salah‑eidii و ‎Muscari salah‑eidii


هذه نباتات صغيرة الحجم، عملت عليها دراسات حديثة في فلورا مصر، وقد صُنّفت على أنها منقرضة أو شبه منقرضة في موطنها.
هي لا تملك رمز الحضارة الكبيرة كما البردي أو النخلة، لكنها تمثل “فجوة” في التنوع النباتي المصري، وفقدانها يعني فقدان جزء من الهوية البسيطة، تلك التي كانت تنمو في الأرض المصرية قبل آلاف السنين.

Muscaris J.Eudes 06
نداءٌ من النيل والحضارة 5

3. لماذا اختفت أو تراجعت هذه النباتات؟

تتداخل عدة عوامل: تغيّر المناخ (جفاف، تغير مجاري المياه)، تغيّرات في استخدام الأراضي (تحويل مستمرّ من الزراعة إلى التطوير أو التعدين)، واستنزاف مباشر (قطع أشجار، انتزاع نباتات). على سبيل المثال: في حالة Medemia argun، التعدين واستخراج المياه الجوفية ضمن محميات تؤثّر على موطنها.
وفي حالة البردي، يقول التقرير الوطني: “لا توجد إلاّ بقعٌ صغيرة جداً”، بينما كان شائعاً قديماً بكثافة.
هنا نتذكّر قوله تعالى:

«وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۖ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ» (الْإِسرَاءِ 17:26-27)
فالاستنزافُ والغيابُ للتروّث يمثلان خيبة للبذل الحسن، بل ذهابٌ لجزء من الخلافة التي أمرنا الله بها.

ومن الأحاديث:

«مَنْ غَرَسَ غَرْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ إنسانٌ أو حيوانٌ أو طيرٌ، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» (رواه مسلم)
أي أن زرع النبات ليس فقط عملًا بيئيًا، بل عبادةٌ ومساهمةٌ في الخير المستمر.


4. هل توجد معامل أو مؤسسات لإعادة زراعتها؟

نعم، هناك مؤشرات على ذلك، وإن كانت ليست واسعة الانتشار بعد.

  • في التقرير الوطني المصري لالتزام التنوع البيولوجي، ذُكر أن البردي أعيد نقله من السودان إلى مصر، وزُرِعَ كمشروع صغير في الجيزة كحضانة (nursery) ثم أُنتج ورق البردي.
  • في قطر، مثلاً، تم إنشاء Quranic Botanic Garden، التي تعمل على نباتات مذكورة في القرآن، ضمنها نباتات مهدّدة، وتُعرِّف الزوار بها، وتعمل على الحفظ خارج موطنها الأصلي (ex-situ).
  • في جامعة أسوان، مصر، ذكرت دراسة أن شتلات Medemia argun قد زُرِعت في الحديقة الصحراوية بالجامعة، وبعضها بدأ في الإثمار.

لكن ما لم يتّضح على نطاق واسع: وجود “معمل إعادة إحياء” كامل مخصّص لاستعادة جميع نباتات مصر القديمة المنقرضة، أو تعاون بين الحكومة والجامعات والمجتمع المدني بهذا الشأن، على الأقل بما يُنشر في المصادر المفتوحة.


5. قصةٌ من الهوية المصرية والحفاظ عليها

تخيل معي: في قديم الزمان، كان فتى صغيرٌ يجلس تحت ظل نخلةٍ من Medemia، في وادي النيل، يسمع العصافير تغرّد، تنبّه للبحر البعيد. كان ينظر إلى البردي يُحتَضَر في ورشة تدوينٍ بالأوراق التي صنعتْ من جذعه. كانت الأرضُ المصرية لا تُرْوي فقط قصتها بالذهب، بل بـ “خضرتها” التي تهمس للحاضر: «أنا هنا منذ آلاف السنين، فلا تتركني أموت وأنت تلهث خلف التطوير».
اليوم، وقد كدّننا نفقد ذلك اللون والظل والورقة، تبرز مسؤوليةُ كل مصريّ: أن يكون “حارساً” لهذا التراث النباتي كما كان المصري القديم حارساً لحقله. إن إعادة زراعة تلك النباتات ليست فقط مشروعاً بيئياً، بل استعادة لروحٍ، ولموطنٍ، ولترابٍ عاش فيه أجدادنا.
وفي هذا السياق، فإن زرع شتلات البردي أو النخلة ليس فعلًا بسيطًا، بل رسالة تقول: «نحن ما زلنا هنا، ونعني أن نحافظ».
قال تعالى:

«وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة: 195)
فكيف ندعُ تراثنا النباتي يُلقَى في التهلكة؟
وقال رسول الله ﷺ : «مَنْ غَرَسَ غَرْساً…» كما سلف، فهذا عملٌ يبقى أُجرُه حتى لو نُسِي، لأن ثمار النبات ستظل تشهد له.


6. توصيات وخاتمة

توصيات

  • تكوين “معامل حفظ نباتيّ وحوض تربّي” داخل مصر مخصّصة للنباتات المصرية القديمة: برمجة لجمع بذور، زراعة شتلات، تعميم الزراعة في الحدائق العامة والمدارس.
  • إشراك المدارس الحكومية – مثل تلك التي تهتم المستخدم في التسويق الرقمي – في “مشروع تراث نباتي”؛ فحقل التسويق الرقمي يمكنه دعم التوعية، حملات التواصل، محتوى فيديو وغرافيك تقيم “نباتات مهدّدة في مصر” وخصّيصاً في صعيد مصر ووسطها.
  • تعاون بين وزارة البيئة، وزارة الزراعة، الجامعات، والمجتمع المدني لإعداد خريطة نباتات مصر القديمة، وحصر ما أمكن من “منقرضة أو شبه مفقودة” والعمل على استعادتها.
  • الاستفادة من السياق الديني: استخدام النصوص القرآنية والحديثية التي تؤكّد على زرع النبات والحفاظ على الأرض، في التوعية المجتمعية.

خاتمة

إن الحكاية التي بدأناها – من البردي والنخلة والنباتات الصغيرة – ليست مجرد نباتات “أقدامٍ” في الماضي، بل هي جذورٌ لذكرياتنا، ولشجرِ هويتنا. وإذ نقف اليوم في لحظةٍ نرى فيها تهديداً لغاباتنا النباتية القديمة، فإننا – كأبناء هذا البلد العظيم – مدعوون لأن نقول: لن ندع هذا التراث يَسْرِق منّا. فكما قال تعالى:

«إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَاَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 11)
ولنكن – بأنفسنا وأعمالنا – من هؤلاء القوم الذين يتفكرون، ويَسْعَون بإخلاصٍ للحفاظ على نباتٍ، بل على هويةٍ، وعلى وطن.
وَلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو وليّنا وهو المستعان.

شارك هذه المقالة
بواسطةadmin
تابع:
مواطن مصري يفتخر ويضحي من اجل وطنه وحماية ترابه ونيله وشعبه
لا توجد تعليقات