بردية إيبوير: بين انهيار مصر ونبوءات الخروج

بقلم: Thutmose III في قلب المتحف الوطني الهولندي بمدينة ليدن، تستقر واحدة من أكثر النصوص إثارة للجدل في تاريخ مصر القديمة: بردية إيبوير (Papyrus Leiden I 344). قطعة من البردي، تبدو لأول وهلة كنص شعري، لكنها عند التأمل العميق تتحول إلى مرآة تعكس لحظة انكسار حضاري، ومصدر جدل بين المؤرخين ورجال الدين وعلماء اللاهوت. انهيار…


بقلم: Thutmose III

في قلب المتحف الوطني الهولندي بمدينة ليدن، تستقر واحدة من أكثر النصوص إثارة للجدل في تاريخ مصر القديمة: بردية إيبوير (Papyrus Leiden I 344). قطعة من البردي، تبدو لأول وهلة كنص شعري، لكنها عند التأمل العميق تتحول إلى مرآة تعكس لحظة انكسار حضاري، ومصدر جدل بين المؤرخين ورجال الدين وعلماء اللاهوت.

انهيار مكتوب بالحبر الأسود

يبدأ إيبوير، الشاعر المصري، نداءه في برديته كما يبدأ نبي في لحظة يأس. يصف بلدًا أُفرغ من نظامه، نهرًا تحوّل إلى دم، وعبيدًا أصبحوا أسيادًا. يتحدث عن فوضى اقتصادية واجتماعية وروحية تضرب قلب مصر:

“النهر دم… الرجال يشربون منه ويقرفون”
“لم يعد هناك ولادة… أين نسل الرجال؟”
“الأرض ليست مضيئة… الناس يعيشون في الظلام”

هل نحن أمام أدب خيالي؟ أم وصف دقيق لكارثة حقيقية وقعت في وادي النيل قبل آلاف السنين؟

توازٍ مريب مع الضربات العشر

ما يجعل هذه البردية مثيرة للفضول هو تطابق بعض أوصافها مع ما ورد في الكتب السماوية حول الضربات التي نزلت على مصر زمن خروج بني إسرائيل.
الضربات كما وردت في التوراة والقرآن — الدم، الظلام، الجراد، موت الأبكار — نجدها تلوح بشكل غامض في نص إيبوير، لكن بلغة دنيوية، دون ذكر لأي سياق ديني أو نبي مرسل.

في التوراة نقرأ:

“فكانت جميع مياه النهر دمًا” (خروج 7:20)

وفي القرآن الكريم:

﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ﴾ (الأعراف: 133)

وفي بردية إيبوير:

“النهر دم، والناس يفرون منه”.

تشابهات لا يمكن تجاهلها، لكنها أيضًا لا تُثبت شيئًا قطعًا. فالبردية لا تذكر موسى، ولا خروجًا، ولا فرعونًا يتحدى الإله.

الخلاف الأكاديمي: هل هي وثيقة تاريخية أم أدب رمزي؟

قسم كبير من الباحثين يرون أن بردية إيبوير تنتمي إلى ما يُعرف بـ”أدب النبوءات المرتدة” — نصوص كُتبت بعد وقوع الأحداث وتم تقديمها وكأنها نبوءات. هذا النوع من الأدب كان شائعًا في مصر القديمة لتبرير صعود حكام جدد.

في هذا السياق، تصبح الكوارث المذكورة ليست سجلاً تاريخيًا بل أدوات رمزية لتصوير فترة انهيار الدولة الوسطى، وتبرير حاجة مصر إلى “فرعون جديد يعيد النظام”.

بالمقابل، هناك من يرى أن هذا النص يمثل بقايا ذاكرة جماعية لأحداث حقيقية، ربما تم إعادة صياغتها لاحقًا في التوراة والقرآن، كل وفق رؤيته ومقاصده اللاهوتية.

من الأدب إلى اللاهوت: مسارات متفرعة

  • التوراة تقدم الضربات العشر كأفعال إلهية مباشرة، تهدف لتحرير بني إسرائيل ومعاقبة فرعون المستكبر.
  • القرآن يعيد صياغة القصة في إطار أخلاقي وتربوي، حيث الكوارث تأتي كنتيجة لجحود واستكبار بشري.
  • الإنجيل لا يروي قصة الضربات مباشرة، لكنه يستخدمها كرمز للخلاص الأكبر على يد المسيح.

أما بردية إيبوير، فهي لا تعد بشيء ولا تَعِد بخلاص. إنها صرخة في وجه عالم ينهار.

الختام: رمزية في مرآة التاريخ

ما بين أسطر بردية إيبوير وآيات الكتب السماوية، يلوح سؤال عميق: هل نحن نقرأ أحداثًا حقيقية من زوايا مختلفة، أم نعيد تركيب الماضي في ضوء إيماننا الحديث؟

في النهاية، تبقى بردية إيبوير شاهدًا غامضًا من زمن بعيد، يُذكرنا أن الكارثة، كما الخلاص، دائمًا ما تُكتب بقلم الإنسان — وأحيانًا، تُقرأ على أنها صوت الإله.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المزيد من المنشورات. قد يهمك أيضاً.